أوروبا .. التعددية المهضومة


ترجمة: حسن شعيب
من جديد, عاد الجدل حول التعددية الثقافية للظهور في الغرب بعد تفجيرات بوسطن الأخيرة واحتجاجات ستوكهولم, حيث يشعر العديد في الوقت الراهن بأن كلامهم مبرر عندما يقولون إن التعددية الثقافية عبر أوروبا والغرب قد فشلت بشكل واضح, ولكن التاريخ أثبت غير ذلك.
ويشكّل فهم التأثيرات الثقافية المتعددة في التاريخ الغربي وسيلة جيدة ليس فقط للحد من التوترات في مجتمعاته المعاصرة، وإنما كذلك لتشجيع المزيد من التفاهم والاحترام بين الغربيين والجاليات المهاجرة.
جدير بالإشارة أن عصر النهضة الأوروبي، الذي بدأ في القرن الرابع عشر، كان عصر الانشغال بالعلوم والتعلم والاختراع, ولكن الشغف بالمزيد من المعرفة، بعيدا عن التفسيرات الدينية للعالم، لم يصل الأوروبيين إلا في القرن الثامن عشر عندما روّج فلاسفة متنورون مثل فولتير ولوك وهوبز أفكارا تنويرية وتجديدية.
يُذكر أن أفكارهم ارتكزت على كلا من الفكر اليوناني والإسلامي، أن الحرب والأمراض والفقر والجهل يمكن الحدّ منها من خلال بناء مجتمعات المعرفة, وقبل ذلك، ومنذ القرن السابع، أعطى الخلفاء والأمراء فيما يُعرف اليوم بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا أولوية لبناء مجتمع المعرفة والعلم.
كما انتشرت الثقافة العامة بين الجمهور العريض، وتطورت المكتبات الخاصة والعامة، بل إن بعض التقاليد الأوروبية في هذا المجال مثل الصالونات الأدبية والتجمعات الاجتماعية الثقافية، فقد جرى في الواقع اقتباسها من دواوين الخلفاء المسلمين.
كما تأثرت الساحات الأدبية مثل الشعر والرواية والرومانسية والشهامة بالمؤلفين المسلمين مثل ابن طفيل في الأندلس، الذي أثر على رواية دانيال ديفو الكلاسيكية روبنسون كروزو, كما كانت الثقافة مستمرة في التطور بين الحضارات البشرية، وقد استخدمت للربط بين الناس وليس لتفريقهم، ويستمر تطورها من خلال تبادل الآراء والقيم والعادات.
وتتكون الثقافة الأوروبية والغربية من تجميع من قرون من التبادل بين الشعوب المختلفة والحضارات المتنوعة. وتعرَّف الثقافة بشكل أكثر دقة بأنها تبادل للقيم بين الحضارات، بدلاً من كونها مجموعات من القيم العربية والبريطانية والسويدية والأميركية.
ومن غير المقبول أن تستخدم التعددية الثقافية ككبش فداء ويلقى اللوم عليها بسبب تفشي مشاكل مثل الفقر وارتفاع معدلات الجريمة والبطالة والتطرف, ومن المزعج رؤية بعض صانعي السياسة والمحللين يقترحون تعريفاً أكثر صرامة للهوية الأوروبية، أو يصبحون أقل تسامحاً تجاه التعدد الثقافي والاختلاف.
من المهم بالنسبة لمجتمعات أوروبا المعاصرة، والغربية على نطاق أوسع، أن تدرك أن المجتمعات والثقافات تنمو باستمرار وتتفاعل داخلها روافد متعددة، بسبب العديد من العوامل الداخلية والخارجية, ولا ينبغي أن نستسلم لضغوط المناهضة للتعددية الثقافية من خلال الزعم بأن قبول الأقليات العرقية في المجتمعات الغربية سيغيرها، لأنها ستتغير في جميع الحالات.
وتفترض هذه المزاعم أن الثقافة الغربية تطورت بمعزل، ودون تبادلات مع ثقافات أخرى، وأنه يمكن تعريفها واقتصارها ضمن نطاق ثقافي محدد وضيق، للحفاظ على مجموعة ثابتة من القيم, ونفس هذه المزاعم الانعزالية تنكر التأثير العظيم للحضارة الإسلامية على الثقافة الغربية الحديثة، والمفارقة أن كثيرًا من مصادر هذه الحضارة نفسها مستقى من أجداد الجاليات التي ينظر إليها اليوم كتهديد.
لا شك أن المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الغربية يمكنهم التعامل مع التحديات الاجتماعية التي نواجهها اليوم من خلال قبول واحترام بعضنا بعضاً كأطراف متساوية في مجتمع واحد, هذا مع إدراك وجود خلافات وفروق، ليس من الضروري أن تختفي، لأنها تغني في الواقع ثقافاتنا المتنوعة لنصبح مجتمعات أكثر إنسانية وتقدما.
لذلك ينبغي ن التعامل مع العنف والجريمة والتمييز كقضايا اجتماعية واقتصادية يمكن أن تكون سائدة بين جاليات عرقية معينة، ولكنها ليست نتيجة لعرقياتها بطبيعة الحال.
لقد حان الوقت لأن تستثمر المجتمعات الأوروبية والغربية أفضل ما في هوياتها وعاداتها وثقافاتها، وأن تتعلم كيف تحتضن وتحترم خلافاتها، بدلا من محاولة محوها, وهذا هو السبيل نحو مجتمع أكثر تناغما وتماسكا وتقدما.
-------------------
طالع ..المصدر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوبة .. ملاذُ السكينة على ضفاف النيل

اليمين النمساوي يطالب بحظر الرموز الإسلامية وسياسيون أيرلنديون يحثون على استيعاب المسلمين.. الأقليات المسلمة في أسبوع

اكبر حديقة ازهار في العالم.. 45 مليون زهرة وسط الصحراء