فرنسا.. الجمهورية الخامسة في "الإنعاش"!


ترجمة: حسن شعيب

قبل 55 عاما, تأسست الجمهورية الخامسة في فرنسا وفق رؤية شارل ديجول، ومع اندلاع حرب أهلية في الجزائر، وخشية باريس من حدوث انقلاب عسكري في الداخل، طلب آخر رئيس للجمهورية الرابعة الضعيفة، رينيه كوتي، من الجنرال ديجول أن يتولى مقاليد السلطة مكانه.
كما قال ديجول، الذي قاد حكومة انتقالية في فرنسا خلال الفترة من 1944 إلى 1946، بشأن مخاوف شعبية من أن يمنح نفسه صلاحيات ديكتاتورية، عقب إبلاغه بذلك "إن عمري الذي يصل 67 عاما لا يسمح لي أن أصبح ديكتاتورًا", وطالما ازدرى ديجول الأحزاب السياسية، ملقياً باللوم عليها فيما آلت إليه فرنسا في عام 1940، والشلل السياسي الذي ورط الدولة في أزمة الجزائر.
وفي قلب الدستور الجديد الذي فرضه في عام 1958، كانت تنبض صلاحيات رئيس قوي تكمن مهمته ببساطة في السيطرة على مقاليد الأمور، وأما بالنسبة لأمور الحكم الاعتيادية، فكانت من مهام رئيس الوزراء ووزرائه، الذين كانوا مسؤولين أمام الرئيس وحده, ورحبت فرنسا ترحيباً كبيراً بذلك التغيير الجذري "انتهاء الجمهورية، وقيام أخرى"، فهل سيتكرر ذلك من جديد إيذاناً بانتهاء الجمهورية الخامسة وقيام السادسة؟
كما احتدم الجدال في فرنسا بشأن الرغبة في مثل هذا التحول، حيث دعا زعيم الجبهة اليسارية الشعبية, جون لوك ميلونشون, إلى إقامة جمهورية جديدة، وهو ما فعله فرانسوا بايرو من حزب الوسط، ومرشحة حزب الخضر السابقة, إيفا جولي, وبرغم اختلافهم بشأن التفاصيل، فإنهم جميعا يتقاسمون هدفا مشتركا، كان سيراه ديجول خطا أحمر، وهو نظام تشريعي قوي حيث يتمكن البرلمان، وليس الرئيس من اتخاذ القرارات المهمة.
وقبل فترة ليست طويلة ، قال أرنود مونتبورج, زعيم سياسي, "إن الجمهورية الخامسة قد انتهت فترة صلاحيتها"، برغم أنه الآن وزيراً في حكومة فرانسو هولاند، الذي يعتبر بالنسبة لكثيرين أفضل حجة لقيام جمهورية سادسة, ومنذ أن تم انتخابه في منتصف عام 2012، تكشفت عيوب هولاند بصورة متكررة كسياسي ورجل دولة، لكن هل كشف أيضاً انتهاء صلاحية الجمهورية نفسها؟
لم يكن هذا التحول في الأحداث ليثير دهشة ديجول، ولا سيما أنه كان يعتقد أن الفرنسيين لا يستحقون فرنسا، ولهذا السبب أصر على أهمية المؤسسات العظيمة, التي انتشلت مواطنيه من أهدافهم التافهة ودفعت بفرنسا إلى الساحة العالمية, ومثلما كشف في مذكراته "لا تكون فرنسا حقاً فرنسا ما لم تكن في الصف الأول، ولا يمكن أن تكون كذلك من دون أن تكون عظمية، فهي مكرسة لمصير استثنائي وغاية سامية".
لهذا السبب, عزم ديجول على تكوين الجمهورية الخامسة كي تكون وسيلة لسياسة العظمة، تلك التي تتميز بالتزامها غير المحدود تجاه الاستقلال، وإنشاء قوة نووية قوية والانسحاب من القيادة العسكرية الموحدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والتدخلات العسكرية المتكررة في المستعمرات الأفريقية السابقة التي عكست جميعها انشغال ديجول بإعادة بناء تلك العظمة والحفاظ عليها.
بيد أن وسيلة ديجول لم تكن ملائمة إلا له، فالرئيس الذي تم انتخابه لفترة سبعة أعوام كان غير مسؤول, بكل ما تحمل الكلمة من معنى ـ فهو لم يكن مسؤولاً أمام حكومته وكذا أمام البرلمان، لكنه بدلاً من ذلك تعامل مع الشعب مباشرة، وتعزز هذا الوضع الاستثنائي في عام 1962 عندما تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة.
كما أقنع ديجول الشعب الفرنسي بالاستفتاء المباشر على الرئيس، والذي ألغى السيطرة التقليدية للبرلمان على السلطات الرئاسية, وفي أوقات الأزمات الشديدة كما في عام 1958، كانت لممارسة الصلاحيات الفردية جاذبيتها، ولكن بعيدا عن تلك الأوقات، مثلما تكشف فترة حكم هولاند، لم تكن جاذبية تلك الصلاحيات كبيرة.
أما هولاند فلم يخضع لمساءلة البرلمان، فهو من يدفع الثمن عندما تصطدم الدولة بأزمات، ولم يكن الرئيس الحالي بعيدا عن المشكلات، حيث تكررت إخفاقاته في إدارة أحداث سياسية, وقد يكون هولاند قادراً بفضل منصبه على دفع أي قانون يرغبه، لكن لا يزال من الممكن إعاقة الرئيس الفرنسي بالتحدي الشعبي والوقائع العالمية التي لا يمكنه السيطرة عليها.
وفي سلسلة من القضايا المحلية، بداية من الثورة الإقليمية في مدينة بريتني ضد الضريبة المقترحة على الشاحنات الثقيلة إلى إقناع ألمانيا بتخفيف سياساتها النقدية المتشددة، حنث هولاند في كثير من وعوده, كما تراجعت شعبية هولاند في استطلاعات الرأي في فرنسا إلى أدنى مستوياتها، كما أعرب 22 بالمائة فقط من المستطلعة آراؤهم عن رضاهم عن أدائه.
قديما, كان الزعماء الفرنسيون الذين يجدون تأييدهم الشعبي يتراجع يلجؤون إلى حل المغامرات الخارجية، ويبدو أن هولاند أحيا هذه الخطة العتيقة, ومنذ أن تقلد هولاند السلطة أمر مرتين بإرسال قوات فرنسية إلى أفريقيا، لكن هذين التدخلين العسكريين في مالي وأفريقيا الوسطى لم يكونا اختياريين، وإنما كانا حتميين على فرنسا، ذلك أن تهديد المتطرفين للحكومة الضعيفة في باماكو ومخاطر الإبادة الجماعية في بانغي تطلبا ردا فوريا.
برغم ذلك، لم يكسب التدخل الفرنسي في أفريقيا لمرتين تأييد شعبي لهولاند في الداخل, وحالت عملية سرفال في مالي دون سقوطه في استطلاعات الرأي لفترة قصيرة فقط، لكن الرأي العام كان منقسماً بشدة منذ البداية بشأن الحكمة من عملية سانجاريس في جمهورية أفريقيا الوسطى.
كما زاد الهوة في الشعبية في بداية العام السابق عندما دعا فرانسوا هولاند بقوة إلى التدخل العسكري في سوريا، وتحول الأمر إلى سخرية عندما اكتشف الرئيس الفرنسي أنه تصدر الموقف بينما كان الأمريكيون والبريطانيون منشغلين بالتراجع, وبدلاً من تشتيت انتباه الفرنسيين بشأن إخفاقاته السياسية في الداخل، عززت مغامرات هولاند الخارجية بالفعل من الجدل المحتدم بشأن ما إذا كان قد آن أوان إجراء إصلاحات مؤسساتية كبيرة، وقيام الجمهورية السادسة. 

طالع ... المصدر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوبة .. ملاذُ السكينة على ضفاف النيل

اليمين النمساوي يطالب بحظر الرموز الإسلامية وسياسيون أيرلنديون يحثون على استيعاب المسلمين.. الأقليات المسلمة في أسبوع

اكبر حديقة ازهار في العالم.. 45 مليون زهرة وسط الصحراء