التعصب الأوروبي .. من التنظير إلى التقنين!



ترجمة: حسن شعيب

يبدو أن التعصب الديني في أوروبا أصبح حقيقة يوميَّة, يؤكِّدها رفض التعدديَّة الدينيَّة، والحيلولة دون مشاركة الآخر في الأماكن العامة بالدول الأوروبيَّة، والمظاهر الأساسيَّة لهذا التعصب -الذي يستهدف المسلمين بالأساس- ليس هامشيًّا، ولا يمكن تجاهله بوصفه من الطراز القديم لنشطاء اليمين المتطرف, والذين صار أغلبهم يترأس في الوقت الراهن حكومات ووزارات هامَّة, أو أصبحوا سياسيين أقوياء ومؤثرين، بل إن الجوَّ العام مفعم بكلمات تعبِّر دومًا عن كراهية الأجانب، وبخاصة المسلمين, ويبدو ذلك واضحًا في التصريحات المتعاقبة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانيَّة مؤخرًا بشأن فشل التعددية الثقافيَّة في بلادهم، والتي لم تكن السياسة تشجعها أبدًا، كما لا يمكن التغاضي عن خطاب رئيس الوزراء البريطاني في فبراير الماضي، والذي ربط فيه بين التعدديَّة الثقافيَّة والإرهاب الإسلامي؛ وهو ما يعد مثالا صارخًا على التعصب ضدّ المسلمين.
فيروس
والملاحظ أن الرغبة في حجب نور الإسلام وحظره قادها كثير من الخطابات التي يمكن وصفها بالمشوِّهة، كما برزت في القوانين الجديدة, وبدا ذلك في 29 نوفمبر 2009, حينما صوَّت 57.5 بالمائة من المواطنين السويسريين في استفتاء شعبي بالموافقة على حظر بناء مآذن جديدة في بلادهم, وثم صار هذا جزءًا من اتجاه أوروبي واسع النطاق.
أما فرنسا, وبعد تطبيق حظر الحجاب في المدارس الفرنسيَّة العامَّة عام 2004 بوصفه رمزًا دينيًّا, أقرَّت في أبريل 2011 القانون الجديد الذي يمنع ارتداء النقاب أو البرقع في "الأماكن العامَّة" بجميع أنحاء فرنسا, أي في كل مكان عدا المنزل الخاص والسيارة ومكان العمل أو المسجد، وحسب دراسة حديثة نشرتها مؤسسة المجتمع المفتوح فإن النساء اللواتي ترتدين النقاب في فرنسا أقلُّ من ألفي سيدة وفتاة, وقد عانى الكثيرون منهن بالفعل من الشتائم والسباب وربما التحرش الجسدي في بعض الأحيان, ومن ثم فإن هذا القانون الجديد سوف يحض ويشجع على المزيد من الإساءة للمسلمات المنقبات فحسب, بينما المواكب الدينيَّة المسيحيَّة التي تتطلب تغطية الوجوه ما زالت مسموحًا بها.
تطرُّف
في الواقع, نحن بحاجة إلى فهمٍ أفضل للمحركات والدوافع وراء هذا الجدال وتلك القوانين الجديدة التي تحظر إظهار الرموز الدينيَّة، وينبغي أن نتساءل عما إذا كانت هناك حماية كافية للتعددية الدينية والحيادية المذهبيَّة في أوروبا, بعد أن شغل اليمين المتطرف الفضاء الأوروبي العام ليؤكِّد بقوة ويفرض ثقافته الرافضة للممارسات الإسلاميَّة, مما جعل الإجراءات المسيئة للمسلمين آخذةً في التصاعد بوضوح.
على سبيل المثال.. في إيطاليا, ينظِّم حزب "رابطة الشمال" اليميني المتطرف حملات إعلاميَّة عدائيَّة، واحتجاجات ضدّ المساجد التي سيتمُّ بناؤها هناك، بل ويصطحب أعضاؤه الكثير من الخنازير إلى موقع المسجد، كما تنظم بعض الجهات المعادية للإسلام في فرنسا (تعتبر نفسها علمانيَّة) فعاليات في الهواء الطلق، يتمُّ فيها التركيز على القيود الإسلاميَّة وتحريم الإسلام للحم الخنزير والكحول, ويبيِّن هذا التركيز على الطعام والنبيذ أن الخوف من تهديدات الهويَّة الثقافيَّة في مواجهة العولمة هو في قلب اهتمامات "اليمين الجديد", كما ادَّعى عالم الاجتماع مابل بيرزن في كتابها الأخير "السياسة غير الليبراليَّة في عهد الليبرالية الجديدة."
كراهية
لقد أصبح التعبير الديني مرة أخرى علامة على الهوية الثقافية الوطنيَّة, ويبدو أن خطاب كراهية الأجانب الذي يحاصر الإسلام ويهاجمه يُنادَى به على نطاق واسع في أوروبا, فالجيل الحالي من قادة اليمين المتطرف (من بينهم هاينز كريستيان شتراخه في النمسا, جيرت فيلدرز في هولندا, ماريان لوبان في فرنسا, وأوسكار فريسنجر في سويسرا) يلبسون رداءً جديدًا, حيث أنهم يبدون أصغر سنًّا ويزعمون مناداتهم بالتقدميَّة، بينما هم يقومون بتخريب رموز صراعات وثورات الستينات, وبعضهم ينادي بالحقوق النسائيَّة والمساواة ومنهم من يؤيِّد حقوق مثليي الجنس بشكلٍ علني وقد اختار جميعهم الإسلام كهدف وليس اليهوديَّة.
إلا أن هذه الأحزاب الرئيسية تختلف في كيفيَّة التعامل مع هذه القضايا والحركات, حيث أن الحكومات الأوروبيَّة تبدو عازمة على تمكين التعصب ضدّ المسلمين من خلال حظر الرموز أو تشويه الممارسات الإسلاميَّة, والغريب أن ذلك يأتي بعد عقود من المحاولات المحلية والقومية في التأقلم لحل القضايا العمليَّة مثل توفير مساحة لمقابر المسلمين وتنظيم الهيئات الممثلة للإسلام.
أكذوبة التنوير
وفي هذا السياق, كيف يمكن حماية الأقليات الدينيَّة في الأماكن العامَّة؟ لقد ارتبط "التسامح" مع الأقليات الدينيَّة من جانب الأغلبيَّة مع عصر التنوير تاريخيًّا (القرنين السابع عشر والثامن عشر), كما تعكس الدساتير الأوروبيَّة اليوم صراعات القرن التاسع عشر من أجل تحقيق المزيد من العلمانيَّة في القارة (برغم عدم وجودها في الإمبراطوريات).
ومع ذلك, فإن مخلفات هذه المعارك العصيبة والدامية في بعض الأحيان لم تكن متعمقةً كما قد يتصور المرء, حيث من المفترض في الديمقراطيات الليبراليَّة, أن تكون الحقوق الأساسية للأقليات محميةً من سوء معاملة الأغلبية في الدساتير المحلية والمواثيق الدولية كذلك, مثل الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسيَّة.
مكيالان
إلا أن السوابق القضائيَّة للمحكمة التي تحمي هذه الاتفاقيَّة تدل على أنه لا يتم التعامل بهذه الاتفاقيَّة مع جميع الأديان على قدم المساواة, وظهر هذا جليًّا في القضية رفيعة المستوى في إيطاليا التي قضت فيها الدائرة الكبرى للمحكمة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان في مارس 2011 بأن وجود الصلبان في المدارس الابتدائيَّة الإيطاليَّة لا ينتهك حق حرية الرأي لغير المسيحيين, وقد كان هذا نجاحًا للحكومة الإيطاليَّة و19 حكومة أخرى طالبت المحكمة باحترام الهويات الوطنيَّة والتقاليد الدينيَّة السائدة في كل من الدول الـ 47 الأعضاء في هذه الاتفاقيَّة.
لذلك لم تنتصر الأقليات الدينيَّة حتى الآن في قضية تتعلق بحرية التعبير الديني أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان, مما أظهر المحكمة الأوروبية يتزايد فيها التعصب وعدم التسامح أكثر من أي وقتٍ مضى, وبهذا ستظل مسألة المساواة بين الأديان في أوروبا مفتوحة وغير منتهية. 
----------------
طالع..المصدر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوبة .. ملاذُ السكينة على ضفاف النيل

اليمين النمساوي يطالب بحظر الرموز الإسلامية وسياسيون أيرلنديون يحثون على استيعاب المسلمين.. الأقليات المسلمة في أسبوع

اكبر حديقة ازهار في العالم.. 45 مليون زهرة وسط الصحراء