مسلمو قبرص.. تحديات التاريخ والديمجرافيا
ترجمة: حسن شعيب
قبل
أحداث عام 1974, التي شهد فيها الجزء القبرصي المسلم اضطهادًا شرسًا على
يد الشطر المسيحي, كان المسلمون يتواجدون في قبرص بأكملها، وكان القبارصة
الأتراك (الجالية المسلمة في قبرص) يقدَّرون بحوالي 18 ٪ من السكان, أي
حوالي 265 ألف نسمة.
ويعتبر
شمال قبرص هو الجزء المسلم، ويشكل المسلمون فيه حوالي 99 ٪ من السكان,
معظمهم من السُّنة. وتنقسم جزيرة قبرص إلى جزأين: دولة "قبرص الشمالية"،
وهي التي تمثل المسلمين، وجميعها من الأتراك, ودولة "قبرص الجنوبية"، والتي
تمثل المسيحيين ومعظمهم من اليونانيين, وتكمن المشكلة الكبيرة في هذه
الجزيرة الصغيرة, ليس في كونها منقسمة إلى جزء مسلم وآخر مسيحي, لكن لأنها
أيضًا منقسمة بين الأتراك واليونانيين.
تاريخ الإسلام
وصل
الإسلام إلى قبرص مع بواكير الفتوحات الإسلامية, في عهد الخليفة الثالث
عثمان بن عفان، وتحديدًا في 649م، الموافق عام 28 هـ, واستمرت الصراعات
قائمة على هذه الجزيرة بين المسلمين والصليبين طوال العهدين الأموي
والعباسي, إلى أن استطاعت الإمبراطورية العثمانية ترسيخ الاستقرار في
الجزيرة، ولطيلة أربعة قرون بين عامي 1571 و 1878 م.
وتعد
جزيرة قبرص أحد الدول المليئة بالتراث الديني والثقافي للقبارصة الأتراك؛
بسبب تلك القرون الأربعة من حكم الإمبراطورية العثمانية, التي كان تعاملها
مع أهل جزيرة يختلف مع أسلافهم, سواء الفرنسيين (1192-1489) أو الإيطاليين
(1489-1571), الذين حرموا الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان من حريتها
الدينية وفرضوا طقوس الكنيسة اللاتينية عليهم, لكن العثمانيين, الذين
أعادوا فتح جزيرة "قبرص" عام 1571, أظهروا عظيم الاحترام والتسامح لجميع
الأديان المختلفة في الجزيرة.
في
البداية قام العثمانيون بتوفير احتياجاتهم من المساجد من خلال إصلاح
وتحويل الكنائس والكاتدرائيات اللاتينية غير المستخدمة, ونتيجة لذلك, تم
الحفاظ على هذه المباني التاريخية في حالة جيدة حتى يومنا هذا, ومن أمثلة
هذه الآثار مسجدي "السليمية" و"حيدر باشا" في نيقوسيا و مسجد "مصطفى باشا"
في فامجوستا.
الآثار الإسلامية
جدير
بالذكر أن المؤرخين والعلماء والكتاب والمهتمين بالتاريخ القبرصي لاحظوا
هذا التسامح الإسلامي الذي كان يجسده الأتراك وأثنوا عليه وعلى الشهامة
والكرم المتوارث مع غير المسلمين, كما أُنشئت خلال العهد العثماني المؤسسات
الدينية أو الأوقاف والتي سميت "فاكيف" في المناطق الحديثة من
الإمبراطورية العثمانية لدعم الأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية.
وفي
هذا الإطار, كان يتم استدعاء المهندسين المعماريين العثمانيين في وسط
الإمبراطورية لاستكمال العمل مع السكان المحليين في بناء المساجد الجديدة,
والنزل والنافورات والحمامات, وبالتالي قاموا بوضع بصمتهم الفردية الخاصة
بهم على معمار البلاد التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية حتى 1878, ومن
تلك المباني التي تم تشيدها, مسجد أحمد العربي, ومسجد ساريوني وتورنكلا في
نيقوسيا, ومسجد "سافر باشا" في كيرينيا, وغيرها من الآثار المعمارية
الإسلامية.
اضطهاد الإسلام
في
عام 1963 نالت جزيرة قبرص استقلالها من الاحتلال البريطاني, والذي تم
الاتفاق فيه على أن يكون رئيس الجمهورية القبرصية من اليونانيين ونائبه من
الأتراك, وذلك لأن نسبة المسلمين الأتراك كانت لا تتعدى 18% من الجزيرة،
بينما كانت نسبة النصارى حوالي 80%, إلا أن هذا التقسيم لم يحظى بإعجاب
اليونانيين برغم أنه في صالحهم.
لذلك
فقد قام اليونانيون والقبارصة المنتسبون إليهم بإيعاز من الاحتلال
البريطاني بشن حملة شرسة ضد المسلمين تحت ذريعة تحقيق الوحدة مع اليونان
(توحيد قبرص مع اليونان), وقد بلغ هذا العدوان ذروته بإراقة الكثير من
الدماء من الشعب القبرصي التركي غير المسلح, وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية
الأساسية, مخلفين ورائهم الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والمشردين من
منازلهم.
يشار
إلى أن التدمير المتعمد للمساجد العثمانية كان جزءًا لا يتجزأ من هذه
العملية وتحطيم أكثر من مائة من الآثار الإسلامية الثمينة وغيرها, وقد حدث
هذا في 103 مدن وقرى، وقد اضطر سكانها من القبارصة الأتراك إلى هجرها خوفًا
من البطش بهم, إلا أن هذا الاضطهاد الذي لحق بمسلمي القبارصة الأتراك بين
عامي 1963-1974 تم وضع نهاية له بعد تدخل تركيا الشرعي في 20 يوليو 1974,
والاستفادة من حقوقها بموجب معاهدة الضمان بشأن قبرص.
بعدما
نال حريته واستقلاله, انضم الجزء القبرصي التركي إلى منظمة المؤتمر
الإسلامي بوصفه مراقبًا, وبالتالي استطاع أن يأخذ وضعه في ثاني أكبر منظمة
دينية إسلامية في العالم, ومن ثم فإن شمال قبرص تشارك في الوقت الراهن
بانتظام في أنشطة منظمة المؤتمر الإسلامي.
مناهضة العلمانية
وفي
الوقت الذي يضم الجزء الشمالي من قبرص في معظمه سكان القبارصة الأتراك,
فإن هناك أيضًا مجموعة صغيرة منهم تعيش في الجزء الجنوبي من جزيرة قبرص,
والذين يقدر عددهم, حسب التقديرات الأخيرة, بنحو 500 قبرصي تركي يعيشون في
جنوب قبرص, والإسلام هو الديانة السائدة بين جميع القبارصة الأتراك.
وبرغم
أن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي يدين بها السكان في شمال قبرص، فإن
القبارصة الأتراك تأثروا كثيرًا بالعلمانية التركية التي استمدوها من
الاستعمار البريطاني وما قام به مصطفى كمال أتاتورك في تركيا, وقد ساعد كلا
العاملين على صبغ المجتمع بالعلمانية التي ترى أن الفكر الإسلامي يقابل
ويعارض الليبرالية التي ترسخها العلمانية.
ولحسن
الحظ, فإن هناك مجموعات في شمال قبرص يعارضون هذه العلمانية؛ بل إنهم شنوا
حملة قوية للحد منها والقضاء عليها, وقد نشأت معظم هذه المجموعات في
الماضي في المملكة العربية السعودية, وفي معظم الحالات تعارض هذه المجموعات
العلمانية القبرصي التركي والانحطاط الديني, وذلك رغبة منها في العودة إلى
الشريعة الإسلامية, ولذلك فقد عارضوا التغييرات التي أدخلها أتاتورك على
ثقافتهم ومجتمعهم, أملًا منهم في جعل تركيا وشمال قبرص الذي يقطنه القبارصة
الأتراك أكثر تدينًا.
وحتى
الآن لم تؤتِ هذه المخططات أو المجموعات الإسلامية ثمارها بعد، ولا تزال
قبرص الشمالية علمانية, إلا أن الجهود الرامية لتغيير هذه المفاهيم مازالت
جارية.
--------------
طالع ..المصدر
تعليقات