التعددية الدينية في أوروبا
ترجمة: حسن شعيب
هل
يُعدُّ تصويت الشعب السويسري على حظر بناء المآذن خروجًا عن السياق
الأوروبي الذي يدّعي التسامح وقبول التعدد الديني؟.. بالعكس، فالحظر
السويسري للمآذن يتطابق تمامًا مع عداء قارة أوروبا للمساجد والمآذن بل
والتراث الإسلامي برمته, حيث أزالت معظم الدول الأوروبية، حتى التي كانت
تحت حكم المسلمين، آثار العمارة الإسلامية، بل ولم يسمح بعضهم بإقامة ولو
مسجد واحد بها.
فالناخبون
السويسريون أحرجوا حكومتهم وصدموا العالم وأحدثوا مفاجأة في استطلاعات
الرأي بالموافقة على حظر بناء المآذن، أحد أبرز رموز العمارة الإسلامية في
سويسرا. وحسب زعم ما تذرَّع به صانعو هذا الاستفتاء فإن بُغيتهم من ورائِه
منع "الأسلمة" في سويسرا, برغم أن سويسرا لا يوجد بها سوى أربعة مساجد لها
مآذن لا يُنادَى للصلاة من عليها.
لكن
ما ينذر بالسوء ويعود بالأذهان إلى التاريخ المظلم, أن شريحة كبيرة من
مسلمي سويسرا من البوسنة، وهم الذين فرُّوا من التطهير العرقي ومعسكرات
الاعتقال التي أقامها غلاة المتطرفين، الذين استهدفوا المساجد العثمانية
التاريخية في البوسنة كجزء من حملة استئصال التراث الإسلامي الإنساني منه
والمعماري.
عندما يتم حظر المآذن الآن في سويسرا التي تسمى "الملاذ السلمي للثقافات المتعددة في جبال الألب" فهذا هو الخطر بعينه.
ولأن
المقارنة هي أساس العلوم الاجتماعية، وهي قاعدة لإجراء مناقشة نزيهة
وعادلة، لا سيما إذا كان الموضوع المطروح للنقاش شديد الحساسية كالدين
والسياسة، لذلك فالمناقشة العادلة أساسها المقارنة العادلة، سواء كان في
السياسة الحالية أو الممارسة التاريخية, لذلك تعالوا نسلط الضوء على تقبل
الدول الأوربية وغيرها للتعددية الدينية ومدى تسامحها مع الأديان الأخرى.
تعصب تاريخي
تاريخيًّا
عُرِفت دول أوروبا الغربية ودول البلقان بالتعصب ضد المساجد والمآذن
وغيرها من رموز الثقافة الإسلامية. لقد شعرتُ بالصدمة, خلال حياتي بأوروبا
الوسطى، لعدم وجود أحد المساجد التاريخية في بودابست بالمجر، التي كان
يحكمها العثمانيون لأكثر من 150 عامًا, كما لا يوجد بآثينا، التي عاشت تحت
حكم المسلمين حوالي 375 سنة حتى القرن التاسع عشر، مسجد واحد حتى عام 2006,
بالرغم من أنه يعيش بها 200 ألف مسلم, وكذلك الكثير من عواصم دول الاتحاد
الأوروبي.
وعلى
الرغم من أن سويسرا ستكون أول دولة تقوم بتعديل دستوري لحظر بناء المآذن،
فإن العديد من البلدان الأوروبية الأخرى تناهض بناء المآذن بمنع بناء
المساجد، وبخلاف سويسرا، التي لديها مساجد منها أربعة لها مآذن، نجد أن
سلوفينيا لا تملك سوى مسجد واحد على الرغم من مطالب الأقلية المسلمة (2.4%
من السكان).
وفيما
يتعلق بألمانيا, أكبر دول الاتحاد الأوربي عددًا للسكان، فإنها تضمُّ
أقلية مسلمة تقدر بنحو 3 إلى 4 ملايين شخص و2400 مكان للصلاة توصف بأنها
"مساجد", لكن عاصمتها برلين لا يوجد بها سوى مسجد واحد ذي مئذنة واضحة
للعيان, حتى هذا المسجد بُني بدعم من الحكومة التركية إلى جوار المقبرة
الإسلامية التاريخية، حيث دُفن الجنود العثمانيون بعد قتالهم إلى جانب
الألمان في الحرب العالمية الأولى، ولحسن الحظ لم تفلح تعبئة الحزب اليميني
بمدينة كولونيا للشعب الألماني للحصول على موافقة بمنع رخصة بناء المساجد
هناك, حيث يمنع الدستور الألماني الاستفتاءات الشعبية واستطلاعات الرأي،
وهي من مخلَّفَات اجتثاث النازية، لأن هتلر استغلَّها في السعي لتحقيق
أهدافه. ويُعتَبر إخضاع حقوق الأقليات والحريات الدينية للاستفتاءات
الشعبية، على الرغم من أن ظاهره هو الديمقراطية، غيرَ عادل وينذر بخطر ويقف
ضد روح الديمقراطية.
وفي
المقابل، نجد دول أوروبا المجاورة في الشرق والجنوب, وروسيا والدول
المسلمة في الشرق الأدنى، تقدم نماذج كثيرة على وقوف الكنائس والمساجد
جنبًا إلى جنب, وبالتأكيد هي ليست أكثر ديمقراطية أو ليبرالية من أوروبا
الغربية، إلا أننا وجدنا أن روسيا والدول الإسلامية في الشرق الأوسط هي
الأكثر قبولًا للتنوع الديني وتراثه المعماري، في سوريا نجد مجموعة متنوعة
من الطوائف المسيحية والكنائس، وكانت مفاجأة سارة لي أن تجد الكنائس بجانب
المساجد والمعابد اليهودية في موسكو ومناطق أخرى في روسيا، بالرغم من تفشي
معاداة الإسلام في هذا البلد، وفي تركيا، حيث أنه نتيجة للقومية والسياسات
التمييزية والحروب المتعددة في النصف الأول من القرن العشرين، ولم يعد
هناك إلا أقلية مسيحية صغيرة حتى اليوم، مع ذلك يمكنك العثور على مئات
الكنائس السليمة نسبيًّا، وبالمقارنة فقد صار اختفاء المساجد والمآذن في
المجر واليونان وإسبانيا وصقلية ورومانيا وصربيا ودول أخرى في أوروبا أمرًا
حتميًّا لا يمكن لأحد أن ينكرَه.
ليس استثناءًا
وعند
النظر, بعد حظر سويسرا لبناء المآذن, في المقاومة التاريخية للديانات غير
المسيحية ورموزها في أوروبا, سنكتشف أن سويسرا ليست استثناءًا؛ فالعديد من
الدول الأوروبية استخدمت هذه الأساليب القانونية والبيروقراطية الأقلّ
إثارةً من الاستفتاءات والحظر الدستوري لمنع بناء المساجد والمآذن، وعلى
الجانب الإيجابي فقد أثار حظر سويسرا لدينا البحث في السجل التاريخي
لأوروبا بشأن التعامل مع الأديان غير المسيحية وهل توفَّر لديهم بصدق
استيعاب التنوع الديني، ينبغي على دول أوروبا أن تكون متنوعة الثقافات،
وليس فقط في مخزونها السكاني، بل أيضًا في تقريرها الرسمي والعلني,
والتعددية الدينية بمعناها الواسع والشامل، بما في ذلك مواجهة قمع
الأوروبيين للتاريخ الإسلامي وتراثه، بالإضافة إلى الانسجام مع الأقليات
غير المسيحية سواء كانوا مسلمين أو يهود أو غيرهم, شرطٌ لا غنًى عنه لمثل
هذه الديمقراطية التعددية الثقافية، والتي يجب أن تسعى إليه أوروبا وجميع
أنحاء العالم.
------------------
طالع..المصدر
تعليقات